**"قضية 137": دومينيك مول يغوص مجددًا في تعقيدات العدالة والمجتمع الفرنسي عبر أزمة "السترات الصفراء"**
في أروقة مهرجان كانّ السينمائي، حيث تتلاقى
الإبداعات الفنية وتُطرح القضايا المجتمعية الملحة، يبرز فيلم "قضية 137"
للمخرج الفرنسي المتميز دومينيك مول كإضافة لافتة للدورة الثامنة والسبعين. هذا
العمل، الذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية، لا يمثل مجرد فيلم درامي بوليسي، بل هو
استكمال لمسيرة مول في سبر أغوار الحقيقة السياسية والاجتماعية في قلب فرنسا
المعاصرة، فاتحًا بذلك نوافذ واسعة للنقاش حول مفاهيم السلطة، العدالة، وحدود
المنظومة السياسية والأمنية.
![]() |
**"قضية 137": دومينيك مول يغوص مجددًا في تعقيدات العدالة والمجتمع الفرنسي عبر أزمة "السترات الصفراء"** |
قضية 137
على قدرة مول الاستثنائية على صياغة نصوص بصرية عميقة، تعكس الواقع بكل ما يحمله من قسوة وتعقيدات. الفيلم، الذي اعتبره كثيرون من أهم ما عُرض في الأيام الأولى للمهرجان، يستلهم روحه من تراث عريق للأفلام الفرنسية التي لم تتردد يومًا في النضال من أجل الحقيقة والتنقيب في التوترات الاجتماعية والسياسية بشجاعة وجرأة.
- هذه السينما، التي تشارك بفعالية في تشكيل وعي الجمهور السياسي، تتجنب التبسيط المخل القائم على
- ثنائية الخير والشر المطلقين، مفضلةً الغوص في المناطق الرمادية للشخصيات والدوافع. يعيد مول
- بهذا العمل إلى الأذهان كلاسيكيات سينمائية لامست تعقيدات السلطة والحقيقة، مقدمًا نموذجًا يتقاطع
- فيه التحقيق البوليسي الدقيق مع القضايا
الاجتماعية الكبرى.
أحداث الفيلم
تدور أحداث الفيلم في عام 2018، وهي فترة شهدت واحدة من أعنف وأكثر المراحل اضطرابًا في تاريخ فرنسا المعاصر:
احتجاجات "السترات
الصفراء". هذه الحركة، التي بدأت كاعتراض على سياسات اقتصادية، سرعان ما
تحولت إلى تعبير واسع النطاق عن الغضب الشعبي تجاه سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون،
وشهدت مواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن. في خضم هذه الأحداث المتفجرة،
تقع مأساة لعائلة من إحدى المدن المهمشة، حين يُصاب أحد أبنائها برصاصة مطاطية
أطلقتها الشرطة، مما يتسبب له في إعاقة دائمة.
- هنا تبدأ الحبكة الرئيسية، حيث تتولى المحققة ستيفاني (تؤدي دورها ببراعة ليا دروكير)، وهي عنصر
- في "الإدارة العامة للرقابة على الشرطة" (IGPN) – الجهاز المعني بالتحقيق في تجاوزات الشرطة
- – مهمة التحقيق في الحادثة. من خلال رحلتها، تكتشف ستيفاني عن كثب التحديات الجسيمة التي
- تواجه تحقيق العدالة في ظل نظام أمني غالبًا ما يتحصن خلف مبررات "المصلحة العامة" وحماية
- عناصره الذين يُعتبرون "حماة الوطن"، لا سيما في سياق التهديدات الإرهابية التي مرت بها البلاد.
العمق الحقيقى
العمق الحقيقي لـ"قضية 137" يكمن في معالجته الدقيقة للأخلاقيات والصراع الداخلي الذي يعصف بشخصية ستيفاني.
هي موظفة في جهاز الشرطة، مؤمنة بمبدأ العدالة وملتزمة به بحماسة شديدة. لكن مع تطور التحقيق، تجد نفسها في مواجهة عوائق متزايدة. يتجلى التوتر بين واجبها المهني وواقعها الاجتماعي؛ فهي تشعر بانتماء مزدوج، إذ تتشارك بعض جوانب خلفيتها الاجتماعية مع الضحية وعائلته (كونها أتت من المدينة نفسها)، وفي الوقت ذاته هي جزء لا يتجزأ من المنظومة الشرطية.
- على الرغم من التزامها العميق بمبادئها، تكتشف أن التحقيقات تتجاوز الحقائق البسيطة لتخترق مفاهيم
- العدالة التي تتبناها، مما يضعها أمام معضلة كبرى بين الواجب المهني والتعاطف الإنساني. ومع
- اتخاذ القضية مسارًا متشابكًا ومعقدًا، يتصاعد التوتر حول السؤال المحوري: هل ستكون ستيفاني
- قادرة على محاسبة أفراد الشرطة المسؤولين عن الحادثة، في مواجهة حصار المؤسسات الأمنية
- الحريصة على حماية النظام القائم، وهل ستصمد أمام التهديدات الداخلية والخارجية التي قد تتعرض
- لها؟
الأختيار
يختار دومينيك مول أسلوبًا سينمائيًا يتسم بالبطء المدروس والتوتر الصامت، مبتعدًا عن التقطيع السريع والمشاهد التقليدية لأفلام الإثارة.
بدلًا من ذلك، يقدم الفيلم حالة من الإحساس المتصاعد بالترقب
والضغط، ينبع من حوارات مركزة، وتفاصيل دقيقة، ونظرة فاحصة على آليات عمل النظام
البوليسي. تظهر التكنولوجيا ووسائل التحقيق الحديثة كأداة ذات حدين: تخدم العدالة
من جهة، ولكنها قد تُوظف أيضًا للحفاظ على السلطة وحماية المنظومة من جهة أخرى. من
خلال سرد متقن لحكاية هذا الانتهاك، يقدم الفيلم نقدًا ذكيًا وبناءً للمؤسسات
وللعلاقات المتشابكة داخلها، مسلطًا الضوء على هشاشة الثقة بين المواطن والدولة.
- يكشف مول عن اهتمامه الطويل بالكيفية التي تعمل بها "الإدارة العامة للرقابة على الشرطة" في
- فرنسا، مشيرًا إلى أن موضوع تحقيق عناصر شرطة في تصرفات زملائهم هو بحد ذاته مادة
- سينمائية غنية بالاحتمالات والتعقيدات. هؤلاء المحققون، كما يوضح، يعيشون وضعًا صعبًا، فهم
- غالبًا ما يتعرضون للازدراء أو حتى الكراهية من زملائهم.
- بينما توجه لهم بعض وسائل الإعلام انتقادات تتهمهم بالتناقض لكونهم جزءًا من الجهاز الذي يُفترض
- بهم مراقبته. رغبة مول في "اختراق" هذا الجهاز نبعت أيضًا من ندرة الوثائق المتاحة حوله، فقد
- كانت هذه المؤسسة لفترة طويلة مغلقة وغير شفافة، ونادرًا ما ظهرت في الأعمال الفنية إلا بشكل
- عابر أو نمطي. ويشير مول إلى أن نجاح فيلمه "ليلة الثاني عشر" والانفتاح الذي أظهرته المديرة
- الجديدة للإدارة (التي كانت قاضية وليست شرطية، لأول مرة) أتاح له فرصة نادرة للغوص في
- أجواء عمل هؤلاء المحققين ومتابعتهم أثناء تأدية مهامهم.
اكتمال الحديث
ولا يكتمل الحديث عن "قضية 137" دون الإشادة بالأداء المتميز للممثلة ليا دروكير في دور ستيفاني. فهي تجسد ببراعة شخصية معقدة تجمع بين القوة الظاهرية والهشاشة الداخلية،
وبين العاطفة الجياشة
والالتزام الصارم بالواجب. تنجح دروكير في نقل الصراع الذي تعيشه الشخصية وهي
تحاول تحقيق العدالة في عالم يعصف به الفساد المحتمل والتوازنات الدقيقة للسلطة،
وتواجه العواقب المرهقة لمواقفها الأخلاقية. من خلال شخصيتها، يعكس الفيلم صورة
مصغرة للتوتر الأكبر بين الوفاء للمبادئ الشخصية ومتطلبات الالتزام بالمنظومة التي
هي، رغم كل شيء، جزء منها.
في الختام
يقدم "قضية 137" نفسه كعمل
سينمائي مهم، لا يكتفي بسرد قصة مشوقة، بل يتجاوزها ليطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة
العدالة، مسؤولية الدولة، والتحديات التي تواجه الأفراد الذين يسعون لإحداث تغيير
من داخل الأنظمة القائمة. إنه فيلم يدعو للتأمل، ويؤكد مجددًا على دور السينما
كمرآة للمجتمع وكأداة فعالة لإثارة النقاش العام.